

علياء عبدالسلام
على سواحل الإمارات، حيث يمتزج صوت الموج بنسيم الفجر، كانت طفلة صغيرة تُمسك بيد والدها وتراقب أمواج البحر وهي تتلاطم في مضمار السباقات. لم تكن علياء عبدالسلام تعلم آنذاك أن تلك اللحظات ستصوغ قدرها، وأن الشغف الذي بدأ بخطوات صغيرة على الرمال سيتحوّل يومًا إلى رحلة نحو المجد فوق سطح الماء.
كانت تنظر لوالدها بإعجاب وهو ينظم البطولات الكبرى، مثل بطولة كأس رئيس الدولة وبطولة العالم لزوارق الفورمولا 2 بين عامي 2000 و2009. هناك، وُلد في داخلها حب دائم للمغامرة والسرعة، فانطلقت أحلامها أبعد من المدى، نحو عالم كانت فيه الزوارق حكرًا على الرجال.
تقول علياء بابتسامة يملؤها الحنين: "نشأ عشقي للبحر منذ الصغر، وكان حب المغامرة يسكن داخلي دائمًا. كنت أتابع والدي وهو يعمل بشغف في البطولات، وهناك أيقنت أن مستقبلي سيكون في هذا العالم الأزرق".
في صيفٍ لا يُنسى، حملتها الرياح إلى مدينة تونسبيرغ النرويجية، المدينة التي ستغدو لها بوابة الحلم. هناك، في ورشة الزوارق التي يملكها فرودي سوندسدال، جربت للمرة الأولى أن تمسك بالمقود وتواجه اندفاع الماء بقوة. "رأى الجميع مدى قدرتي على القيادة، وقرر والدي لحظتها أن يؤسس لي فريقًا خاصًا"، تقول وهي تتذكر تلك اللحظة التي خطت فيها أولى خطواتها الحقيقية في عالم السباقات.
الوالد كان الركيزة والداعم الأول، يقدّم لها من خبرته ما يجعلها تختصر سنوات من الطريق الشاق. لكن علياء كانت تدرك أن الدعم لا يكفي، وأن على المرء أن يزرع قبل أن يقطف. "كانت القيادة الرشيدة في الإمارات، بدعمها للمرأة وتمكينها، تُلهمني دائمًا أن لا مستحيل حين يكون الحلم صادقًا"، تضيف وهي تتحدث عن بداياتها بفخر وامتنان.
حين أمسكت بالمقود للمرة الأولى، لم يكن الشعور عاديًا. تقول: "كان مزيجًا من الحماس والحذر، وأنا أدرك أنني أخوض تجربة غير مألوفة، لأن قيادة فتاة لزورقٍ سريع لم تكن مألوفة في مجتمعنا العربي". ومع كل خفقة من خفقات المحرك، كان قلبها يزداد ثباتًا، فتُواجه الموج بعزيمة، والتحديات بابتسامة.
لكن الطريق لم يكن سهلًا. واجهت علياء في بداياتها نظرات متحفظة وتعليقات مترددة على مواقع التواصل. ومع ذلك، لم تتراجع. "تحولت علامات الاستفهام إلى إعجاب وتشجيع بعد مشاركتي في بطولة الإمارات كأول إماراتية وعربية في هذا المجال"، تقول بثقة يملؤها الفخر.
لم تكن القيادة وحدها هي السر، بل اللياقة والتركيز وسرعة البديهة. صفات رأت فيها مفاتيح النجاح وسط الأمواج المتقلبة. "بفضل هذه المهارات حققت المركز السادس في آخر جولة شاركت فيها"، تروي تفاصيل رحلتها بعين المتسابقة التي تزن كل لحظة في السباق.
تستذكر موقفًا لا يُنسى: "في إحدى الجولات لم يمنحني المتسابقون الرجال المساحة الكافية للتجاوز، وربما كان في الأمر تحدٍ مضاعف لأنني امرأة بينهم. لكن في اللفة الأخيرة تجاوزت ثلاثة زوارق دفعة واحدة... كان ذلك الانتصار الصغير بداية ثقتي الكبيرة بنفسي". تضحك وهي تضيف: "أدركت حينها أن الفوز لا يعرف جنسًا، بل يعرف فقط من يملك الإصرار".
تتحدث علياء بشغف عن مشاركتها في بطولة العالم: "كانت مرحلة مفصلية حققت فيها المركز الحادي عشر من أصل 17 زورقًا، وصُنفت التاسعة عشرة عالميًا من أصل 33. أعتبره إنجازًا عربيًا يخص كل فتاة طموحة تشبهني".
وتضيف أن الفريق وضع خطة شاملة للمشاركة في البطولات الأوروبية والعالمية القادمة: "أهدافنا واضحة... الوصول إلى podium البطولات وتمثيل الوطن بأفضل صورة".
تذكر علياء أسماء وقصصًا لا تُنسى: "والدي هو الداعم الأول ماديًا ومعنويًا، يليه اتحاد الإمارات للرياضات البحرية ووزارة الرياضة، إضافة إلى برنامج مبادلة للتميز الذي منحني الثقة، وشركة نيرفانا للسياحة التي قدّمت الدعم اللوجيستي، وعيادات أستثيك التي وفرت لي العناية الصحية قبل وبعد السباقات".
تتحدث عنهم بعفوية وامتنان يجعل كلماتها أقرب إلى الاعترافات منها إلى التصريحات.
توجّه علياء رسالتها لكل فتاة تحمل حلماً: "لا تترددن في خوض التجربة. الشغف والإصرار هما الوقود الحقيقي للنجاح. الرياضة لا تفرق بين رجل وامرأة، بل بين من يملك العزيمة ومن يكتفي بالمشاهدة".
تلمع عيناها وهي تتحدث عن أول سباق رسمي لها في النرويج: "حققّت المركز الخامس في بطولة اسكندنافيا، شعرت حينها بمعنى الوطن الحقيقي عندما رأيت علم الإمارات يرتفع فوق الأمواج".
أما لحظة عبور خط النهاية، فتقول عنها: "كل مرة أعبر فيها الخط أشعر أني أجتز فصلاً جديدًا من قصتي. تخطي المتسابقين يمنحني شعورًا بأن كل ما كان مستحيلًا ذات يوم أصبح ممكنًا الآن".
في زاوية أخرى من الحكاية يقف والدها، الرجل الذي عاش مجد البطولات منذ التسعينات. يقول بملامح يغمرها الذكاء والحنين: "شاركت مع أبطال كبار مثل بدر حارب، خلفان سهيل، المرحوم سالم الختال، وعبيد الشامسي. في التسعينات كانت البطولات أشبه بالملاحم، ومع فرق مثل فيكتوري تيم وفريق أبوظبي للفورمولا كانت المنافسة تشتعل شرفًا للأوطان".
ينظر اليوم إلى الساحة الرياضية بعين الخبير فيقول: "التطور التقني كبير، لكننا بحاجة إلى استدامة الإرث وبناء جيل جديد. كانت لدينا أقوى بطولة في الشرق الأوسط، بطولة كأس رئيس الدولة لزوارق الفورمولا 2، التي أنجبت أبطالًا عالميين مثل ثاني عتيق القمزي. واليوم، حين أرى ابنتي تخوض السباقات العالمية، أشعر أن المشعل انتقل إلى يدٍ تستحق".
ينهي حديثه بابتسامة تعلوها الفخر: "حين شاهدت سباقها الأخير في بطولة العالم بإيطاليا من كاميرا الـGoPro داخل الزورق، رأيت ثقةً ودقةً في كل حركة... عندها أدركت أننا قريبون جدًا من الحلم الأكبر. علياء تسير بخطى ثابتة نحو المجد".