

في عالم الطب الذي يزخر بالتخصصات الدقيقة، تبرز قصصٌ لا تُروى إلا بشغفٍ وإصرار عميقين. هذه هي قصة الدكتورة عايدة العوضي، استشاري طب أورام علاجي، ورئيس قسم الاورام وأمراض الدم في مدينة الشيخ شخبوط الطبية بأبوظبي، ورئيس اللجنة العلمية و مجموعة عمل سرطان الثدي في جمعية الإمارات للأورام و عضو في لجنة الجمعية الخليجية للأورام، التي لم تكتفِ باقتحام أحد أصعب المسارات الطبية فحسب، بل حققت فيه الريادة، لتصبح أول إماراتية تلتحق بزمالة أمراض الدم والأورام الطبية في مركز MD Anderson Cancer Center العالمي، قصتها ليست مجرد سجل إنجازات مهنية؛ إنها مزيج ساحر يجمع بين أصالة الهوية الإماراتية وروح الابتكار العلمي العالمي، مدفوعةً برسالة إنسانية نبيلة انطلقت من كلمة موجعة ألقتها مريضة شابة غيّرت مسار حياتها. فكيف وازنت هذه الطبيبة الرائدة بين قسوة تحديات الغربة، ومتطلبات العائلة، والعطاء اللامحدود في مجال علاج الأورام، لتصبح نموذجًا حيًا لمستقبل المرأة الإماراتية في طليعة العلوم؟
شغف بالطب واختيار تخصص الأورام
قالت العوضي منذ أن بدأت دراسة الطب، كنت أشعر أن مجال الأورام هو الطريق الذي يولد في داخلي شغفًا خاصًا. لطالما وجدت نفسي أرتاح إلى التواصل مع المرضى وأشعر بمسؤولية حقيقية تجاههم، وخصوصًا مريضات سرطان الثدي. لن أنسى أبدًا تلك التجربة التي غيّرت مسار حياتي، حين كنت أتمرن في قسم الطوارئ والتقيت بمريضة شابة متعبة للغاية، اكتشفت كتلة في صدرها لكنها خافت أن تراجع الأطباء الذكور، مما أدى إلى تأخر التشخيص وانتشار المرض. حين التفتت إليّ وقالت بصوت مليء بالألم والأمل: "لو كنتِ طبيبة أورام..." شعرت أن كلماتها كانت رسالة موجّهة إليّ شخصيًا. بعد أيام قليلة توفيت رحمها الله، ومنذ تلك اللحظة أدركت تمامًا أن هذا هو التخصص الذي خُلقت لأكون فيه.
فأصبحت الأورام بالنسبة لي أكثر من مجرد مهنة، بل رسالة إنسانية أمارسها بروح الأمل، مؤمنة بأن كل مريضة سرطان تستحق الدعم والرعاية والطمأنينة.
دعم العائلة
عائلتي هي الداعم الأول في كل محطة من مسيرتي. والداي حفظهما الله، منحاني الثقة المطلقة لأختار طريقي بحرية، ولم ينظرا يومًا إلى كوني فتاة كعائق أمام أحلامي. كانا أكبر المشجعين والداعين لي بالنجاح دائمًا. والدتي كانت تخاف عليّ من انشغالي الشديد، لكنني أحرص باستمرار على التواصل معها ومع والدي لأن قربهما يعطيني طاقة لا تقدّر بثمن.
أما زوجي، فكان سندي الدائم وشريكي في كل خطوة. دعمني باقتناع كامل حتى وأنا أختار تخصصًا صعبًا مليئًا بالتحديات العاطفية. كثيرون تساءلوا عن سبب اختياري لهذا المجال الصعب، لكنهم اليوم يرون ثمرة العمل وتأثيره الحقيقي في حياة الناس. عائلتي ببساطة هي الجسر الذي أوصلني إلى ما أنا عليه اليوم.
تحديات الدراسة في الخارج والحفاظ على الهوية
دراستي في الولايات المتحدة امتدت لسبع سنوات كانت مليئة بالتحديات والإنجازات. كنت أول طبيبة إماراتية تُقبل في زمالة أمراض الدم والأورام الطبية في مركز "MD Anderson" أحد أعرق مراكز السرطان في العالم، وكان عليّ أن أبرهن أن الطبيب الإماراتي قادر على التميز والمنافسة في أعلى المستويات العالمية.
واجهت تحديات أكاديمية وثقافية عديدة، لكنني كنت مؤمنة أن التميز لا يرتبط بجنسية، بل بالإصرار والاجتهاد. إلى جانب الدراسة والبحث، كنت أمًّا لطفلين، وأتذكر كيف كان يومي يبدأ قبل الفجر بين تحضيرهما للحضانة والانطلاق نحو يوم طويل مليء بالمسؤوليات، لكنني ومع كل إنجاز كنت أشعر أنني لا أمثّل نفسي فقط بل أرفع اسم بلدي عالياً.
حرصت دائمًا على أن أبقى قريبة من هويتي الإماراتية وقيمي الأصيلة، وغرستها في أطفالي رغم نشأتهم في الخارج من خلال الحفاظ على اللغة والثقافة والدين. فالغربة علمتني الصبر والانضباط، وجعلتني أكثر ثقة بنفسي وبقدرات الطبيب الإماراتي.
لحظات الفخر والإنجاز
شعوري بالفخر يبلغ ذروته عندما أرى مريضة تغادر المستشفى بصحة وعافية بعد رحلة علاج صعبة. هذه اللحظات تختصر معنى النجاح الطبي والإنساني معًا.
كما أعتز أيضًا بعملي البحثي في سرطان الثدي، حيث شاركت في نشر دراسات رائدة حول سرطان الثدي عند الرجال وسرطان الثدي المرتبط بالحمل. ومن أكثر اللحظات التي أفتخر بها في مسيرتي المهنية اختياري لتمثيل دولة الإمارات كعضو رسمي في لجنة إعداد إرشادات NCCN-MENA لسرطان الثدي التابعة لـ National Comprehensive Cancer Network (NCCN)، وهي من أبرز الهيئات العالمية التي تضع المعايير المرجعية لعلاج السرطان وتعتمدها مراكز الأورام حول العالم. فأن يُذكر اسم الإمارات ضمن هذه المنصة العلمية الرفيعة كان بالنسبة لي شرفًا ومسؤولية في آن واحد، وتجسيدًا للمكانة التي وصلت إليها الكفاءات الطبية الإماراتية في الساحة العالمية.
دور المرأة الإماراتية ومستقبلها العلمي
أرى أن المرأة الإماراتية اليوم تقف في مقدمة مسيرة التطور في الدولة. فقد أثبتت جدارتها في مجالات الطب والقيادة والعلم بفضل رؤية قيادتنا الرشيدة ودعمها الحقيقي. والمستقبل برأيي يحمل فرصًا أكبر للمرأة الإماراتية في مجالات البحث العلمي والذكاء الاصطناعي والطب الدقيق.
العلاقة بين الهوية الإماراتية والمهنة الإنسانية
هويتي الإماراتية هي بوصلتي في كل قراراتي، فأنا تربيت على قيم العطاء والتواضع والرحمة، وهي الأساس الذي أمارس الطب من خلاله. عندما يراني المرضى في العيادة كطبيبة إماراتية تشاركهم اللغة والثقافة، أشعر بثقة جميلة تنعكس على راحتهم وطمأنينتهم. هذه العلاقة الإنسانية العميقة هي ما يجعل عملي أكثر دفئًا وتأثيرًا، فأنا مؤمنة بأن الهوية ليست ما نحمله في الأوراق، بل ما نجسده في عملنا وسلوكنا وإخلاصنا لوطننا.
أثر الدعم الحكومي والقيادة الإماراتية الرشيدة
ما وصلت إليه ما كان ليحدث لولا دعم قيادتنا الرشيدة التي آمنت بقدرات المرأة ومكّنتها عمليًا وليس نظريًا. حصولي على فرصة الدراسة في مركز MD Anderson بدعم من مؤسسة خليفة بن زايد آل نهيان للأعمال الإنسانية كان نقطة تحول مهمة في مسيرتي. وعندما عُدت إلى الإمارات، تشرفت بالانضمام إلى مستشفى الشيخ شخبوط الطبي ضمن فريق متخصص في رعاية الأورام.
كل هذه الفرص تجعلني أعمل بإخلاص أكبر لأكون نموذجًا يعكس رؤية الإمارات في تمكين المرأة وتعزيز حضورها في مجالات الطب والبحث العلمي.
الحفاظ على التوازن بين العمل والحياة الشخصية واستعادة الطاقة
في مجال مليء بالضغوط مثل علاج الأورام، أعتبر تحقيق التوازن بين العمل والحياة مسألة أساسية. أخصص وقتًا منتظمًا للراحة والانفصال عن ضغوط المستشفى، سواء بالسفر أو قضاء الوقت مع عائلتي. السفر بالنسبة لي وسيلة لاكتشاف الذات وتجديد الروح، أحب المشي في الطبيعة، والتعرف إلى ثقافات وأطعمة جديدة، وأشعر أن كل رحلة تمنحني طاقة مختلفة.
فالوقت مع العائلة والأصدقاء يعيد لي السلام الداخلي، وأعتبر التواصل الإنساني الصادق جزءًا من استمراري كطبيبة وإنسانة.
الموازنة بين العمل والأسرة
التوفيق بين الحياة المهنية والعائلية كان تحديًا كبيرًا، لكنني تعلمت أن النجاح الحقيقي لا يكون على حساب الأسرة. أحرص على قضاء وقت نوعي مع زوجي وأطفالي مهما كانت انشغالاتي، وأتابع تفاصيلهم الصغيرة باستمرار. والداي لهما حضور دائم في حياتي، وقربي منهما يمنحني طمأنينة لا تعادلها أي إنجاز.
وثقافتنا الإماراتية الأصيلة علمتني أن الترابط الأسري هو سر القوة، وهذا ما أطبقه كل يوم بين العمل والمنزل.
التحديات في تشخيص وعلاج سرطان الثدي في الإمارات
رغم التطور الكبير الذي حققته دولتنا في تشخيص وعلاج سرطان الثدي، إلا أن بعض التحديات لا تزال قائمة، وأهمها رفع الوعي حول أهمية الكشف المبكر. لا تزال هناك نساء يترددن في الفحص أو يخفن من مراجعة الطبيب. لذا نعمل باستمرار على الحملات التوعوية للوصول إلى كل الفئات.
أما في الجانب الإيجابي، فقد حققت دولة الإمارات خلال السنوات الأخيرة قفزات نوعية في مجال تشخيص وعلاج سرطان الثدي. اليوم نمتلك منظومة صحية متكاملة وثقة متزايدة من المرضى، مع تنوع في التخصصات الدقيقة التي أصبحت متاحة داخل الدولة. وما يبعث على الفخر أن معظم الحالات تُعالج محليًا بفضل كفاءات وطنية مؤهلة تلقت تدريبها في نخبة المراكز العالمية، تجسيدًا لرؤية الدولة التي تؤمن بأن "نُرسل أبناءنا ليتعلموا في الخارج ليعودوا ويخدموا وطنهم بخبرات عالمية المستوى".
كما أصبحت الإمارات من الدول الرائدة في تبنّي أحدث الأدوية والتقنيات التشخيصية والعلاجية، بما يشمل الفحوص الجينية والعلاج المناعي والعلاج الموجّه، إضافة إلى استخدام التكنولوجيا المتقدمة في التصوير والكشف المبكر. إن ما نقدمه اليوم في مستشفياتنا لا يقل بأي وجه عن ما يُقدَّم في أكبر المراكز العالمية، وهذا بحد ذاته مصدر فخر لكل طبيب وعامل في منظومتنا الصحية.
دور الأبحاث السريرية والذكاء الاصطناعي
نحن نعيش عصرًا جديدًا من الطب في الإمارات، حيث أصبحت الأبحاث السريرية جزءًا من منظومة علاج الأورام، مما يمنح المريض فرصًا للوصول إلى أحدث العلاجات عالميًا. أما الذكاء الاصطناعي، فأصبح يساهم في كشف الأورام بدقة عالية وتحليل البيانات الجينية لتحديد العلاج الأنسب لكل مريض. هذا التقدم العلمي المدعوم بالرؤية الوطنية يجعل الإمارات في طليعة الدول الرائدة في علاج السرطان.
تعزيز الوعي المجتمعي بسرطان الثدي
تحسّن مستوى الوعي الصحي في الإمارات بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة بفضل جهود الحكومة والمؤسسات والمجتمع المدني. المشاركة الواسعة في شهر أكتوبر الوردي هي دليل على وعي متزايد لدى السيدات بأهمية الكشف المبكر. ومع ذلك، نحتاج إلى استمرار التوعية عبر المناهج الدراسية ووسائل التواصل الاجتماعي لتنمية ثقافة الوقاية الدائمة. بفضل هذه الجهود، أصبحنا اليوم نرى نتائج ملموسة من ارتفاع نسب الشفاء وتحسن جودة حياة المريضات.
رسالة للشابات الإماراتيات
رسالتي لكل شابة تفكر في الطب أو في أحد التخصصات الدقيقة مثل الأورام أو الجراحة، أن تختار المجال بدافع الشغف لا المجد الشخصي. الطريق صعب لكنه ممتع وغني بالمعنى الإنساني. كوني مؤمنة بنفسك، واعملي بهدوء وإصرار، وتذكري دائمًا أن نجاحك لا يكتمل إلا بالتوازن والهوية والنية الصادقة في خدمة الناس.
وأقول لهن لا تدعن الخوف أو الشك يقف في طريقكن، وثقن أن النجاح لا يُمنح بل يُصنع. العمل الجاد والتوازن هما سرّ الاستمرار، والمحافظة على الهوية الإماراتية هي ما يمنحنا هذا التفرّد والتميز في العالم.