

حذّرت خدمة كوبرنيكوس لتغير المناخ التابعة للاتحاد الأوروبي من أن عام ٢٠٢٤ "يزداد احتمالًا" أن يكون العام الأكثر حرارة على الإطلاق على الأرض. الصورة: وكالة فرانس برس/أرشيف
سيودي تغير المناخ بحياة ما يقدر بنحو تسعة ملايين شخص سنويا بحلول نهاية القرن في حال استمرار الانبعاثات العالية، متجاوزاً بذلك إجمالي عدد الوفيات الناتجة عن جائحة كوفيد-19 خلال ثلاث سنوات.
وأكدت مها تيسير بركات، مساعد وزير الخارجية للشؤون الطبية وعلوم الحياة خلال مشاركتها في الاجتماعات السنوية لمنتديات المستقبل العالمية التابعة للمنتدى الاقتصادي العالمي، وفي جلسة بعنوان "ما تكلفة التقاعس عن الاستثمار في الصحة؟"، أن تغير المناخ يُعد التهديد الأكبر للصحة العالمية، مع توقع بلوغ تكاليفه الاقتصادية بين 2 إلى 4 مليارات دولار سنوياً بحلول عام 2030.
وتبرز هذه المقارنة الصادمة حجم الأزمة الصحية المناخية التي تواجه العالم. وقالت بركات: "أعتقد أن تغير المناخ هو المحور الأساسي لكل النقاشات المتعلقة بالتحديات الصحية".
استناداً إلى تصنيفات منظمة الصحة العالمية، أوضحت بركات أن هناك ست فئات رئيسية من التحديات الصحية العالمية التي تتغير من عام إلى آخر لكنها تظل تمثل أخطر التهديدات لرفاه الإنسان.
إلى جانب تغير المناخ، تشمل الفئة الثانية الأمراض المستجدة ومقاومة مضادات الميكروبات، بما في ذلك الفيروسات الجديدة التي تنتقل من الحيوانات إلى البشر والبكتيريا التي لم تعد تستجيب للعلاج.
ويُعدّ مرض السل، الذي يودي بحياة 1.25 مليون شخص سنوياً، تحدياً متزايداً بسبب مقاومة مضادات الميكروبات.
وقالت بركات: "ما كنا نعتقد أنه علاج فعّال لم يعد يعمل بنفس الكفاءة الآن"، محذرة من "وجود سلالات من السل لا يبدو أنها تستجيب لأي نوع من المضادات الحيوية".
أما الفئة الثالثة، وهي الأكبر، فتشمل الأمراض غير السارية، التي تتسبب بثلاثة أرباع الوفيات في العالم. وأضافت: "يموت أكثر من 40 مليون شخص بسبب الأمراض غير السارية"، مشيرة إلى الأمراض التي تشمل السكري وأمراض القلب والسرطان والسكتات الدماغية والخرف.
وتشمل الفئة الرابعة الأمراض السارية خارج نطاق الأمراض المستجدة. ويظل السل أكبر قاتل في هذه الفئة، بينما يصيب الملاريا أكثر من 200 مليون شخص سنوياً، ويقتل أكثر من نصف مليون إنسان، معظمهم من الأطفال والنساء الحوامل.
الفئة الخامسة تركز على مرض شلل الأطفال، الذي يقترب العالم بشدة من القضاء عليه نهائياً.
كشفت بركات أن عدد الحالات العالمية انخفض من 380 ألف حالة عام 1988 إلى 36 حالة فقط حتى الآن في عام 2025، منها 29 في باكستان و7 في أفغانستان.
وقالت: "نحن في المرحلة الأخيرة والأصعب نحو القضاء على هذا المرض الرهيب". وأضافت: "آخر مرض تمكنا من القضاء عليه نهائياً كان الجدري عام 1980، وكان أول مرض يُستأصل من العالم كلياً. آمل أن يكون شلل الأطفال هو التالي، فنحن قريبون جداً من ذلك".
لكنها حذّرت من أن التخاذل في هذه المرحلة الحرجة قد يكون كارثياً، مضيفة: "إذا توقفنا فجأة عن جهودنا للقضاء على آخر 36 حالة، فسوف تتضاعف الأعداد بسرعة هائلة، وسنعود قريباً إلى مئات الآلاف من حالات شلل الأطفال، ليس فقط في هذين البلدين بل في كل أنحاء العالم".
وأوضحت أن فيروس شلل الأطفال لا يزال يُكتشف في شبكات الصرف الصحي ومصادر المياه في العديد من الدول في كل قارة. وقالت: "إذا صادف شخص لم يتلقَّ اللقاح وجود الفيروس، سواء في مياه الصرف أو المياه الملوثة أو في أماكن لم تُنظَّف بشكل كافٍ، فسيصاب بالفيروس ويُصاب بالشلل". وأضافت: "لهذا السبب يجب أن نستمر في برامج التحصين والتعليم والتوعية، وعلينا فعلاً إنهاء المهمة".
أما الفئة السادسة والأحدث، فهي تمثل تهديداً متصاعداً بدأ مسؤولو الصحة حول العالم في أخذه على محمل الجد: الهجمات الضارة على قطاع الصحة، سواء المتعمدة أو غير المتعمدة.
وقالت بركات: "منها المتعمد مثل الهجمات السيبرانية والمخدرات الاصطناعية، وغير المتعمد مثل المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة". وأضافت: "هذه فئة جديدة من التحديات الصحية العالمية لم نكن نعتبرها سابقاً، لكن من المتزايد أنه يجب أن نضمّها الآن".
بعد ذلك، استعرضت بركات نهج دولة الإمارات في الاستثمار الصحي، والتي ترتكز على مبدئين أساسيين: "أولهما أن الشعب السليم هو شعب مزدهر، فبالصحة توجد السعادة والرخاء والنمو الاقتصادي"، مضيفة: "وثانياً، قيمة الحياة البشرية، فلا يجب أن يموت أحد بسبب مرض يمكن الوقاية منه، وخصوصاً الأطفال".
وقالت إن هذين المبدأين هما ما يدفع التزام دولة الإمارات بالاستثمار في الصحة محلياً ودولياً.
وأكدت أن التزام الإمارات بالصحة العالمية له جذور عميقة تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، عندما بدأ المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان تمويل برامج إنسانية قبل اكتشاف النفط في الدولة.
وقالت: "حتى في السبعينيات، قبل اكتشاف النفط، كان صاحب السمو الشيخ زايد — طيب الله ثراه — يمول برامج تنقية المياه في إفريقيا وفي أكثر مناطق العالم فقراً. وإذا تجولت في بعض القرى الصغيرة حول العالم، قد تجد بئراً أو مدرسة أو منشأة تحمل اسم زايد — وهذا كله بدأ منذ السبعينيات".
وفي التسعينيات، كان هناك لقاء مفصلي بين الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، شكّل رؤية الدولة في مجال مكافحة الأمراض. وأوضحت بركات: "التقى الشيخ زايد بجيمي كارتر، وتعرّف على جهوده المذهلة في مركز كارتر لمحاربة مرض دودة غينيا".
اليوم، تواصل دولة الإمارات هذا الإرث من خلال برامج صحية دولية واسعة النطاق. وقالت بركات: "ملايين اللقاحات حول العالم تم تمويلها من قِبل دولة الإمارات العربية المتحدة" عبر منظمات مثل "يونيسف" و"منظمة الصحة العالمية" و"غافي".
تُقدّم الدولة مساعدات إنسانية خلال الكوارث الطبيعية، بما في ذلك الأعاصير والفيضانات والزلازل، وتحافظ على حضور قوي في مناطق النزاع. وأشارت إلى أنه "في مناطق النزاع مثل غزة، بلغ أحدث التقديرات 828 مليون دولار أنفقتها الإمارات العربية المتحدة على المساعدات الإنسانية لغزة". وأضافت: "لدينا مستشفيات ميدانية في مناطق أخرى ومناطق نزاع، وأنواع أخرى من المساعدات الطبية".
وتابعت قائلة: "على المستوى الدولي، تسعى الإمارات إلى مساعدة العالم وتعزيز الأنظمة الصحية والمساهمة في القضاء على الأمراض واستئصالها — وهذا يمثل محوراً أساسياً في أجندتنا الوطنية".
وعلى الصعيد المحلي، تستثمر الإمارات بكثافة في التقنيات الناشئة التي ستشكل مستقبل الرعاية الصحية في القرن الحادي والعشرين، متجاوزة الخدمات الصحية التقليدية وبرامج الوقاية المعتادة.
وقالت بركات: "لقد استثمرت الإمارات بشكل واسع في ما تعتبره التقنيات المستقبلية، متقدمة بذلك على غيرها من الدول"، مشيرة إلى أن الذكاء الاصطناعي هو القوة التحولية الأبرز في الطب الحديث.
وأضافت: "أعتقد أن الذكاء الاصطناعي سيكون هو العنصر الذي يغيّر قواعد اللعبة في القرن الحادي والعشرين. كنت أظن أن العلاج الجيني أو علاج الخلايا الجذعية سيكون هو الاختراق الأكبر في هذا القرن، لكنني أؤمن اليوم أن الذكاء الاصطناعي هو الذي سيسهّل كل تلك الاكتشافات. فعندما ننجح في دمج الذكاء الاصطناعي بالصحة، سيفتح ذلك كل الأبواب الأخرى".
وقد أطلقت دولة الإمارات عدة مبادرات رئيسية لتعزيز الابتكار الطبي، منها "برنامج الجينوم الإماراتي"، الذي يهدف إلى تمكين الطب الشخصي بناءً على البصمة الوراثية للأفراد.
كما يركّز "مركز أبوظبي للخلايا الجذعية" على تجديد الأنسجة وعلاج الأمراض التنكسية. وتم تأسيس "هيئة الإمارات للأدوية" لتسريع تطوير الأدوية ودعم الأبحاث الخاصة بالعلاجات الجديدة.
واختتمت بركات بالقول: "علينا أن نتبنى هذه التقنيات ونستخدمها بالطريقة الصحيحة، وأن نشارك البيانات ونوفر المعلومات التي يمكن أن تدعم إدارة الحالات الفردية، وكذلك تسهم في تحقيق تقدم هائل في مجال الصحة العامة".