«الحبر الذهبي» في أبوظبي يرسم تاريخ المعرفة عبر ألف عام من المخطوطات

في تعاون بين دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي وجامعة ماكغيل الكندية، ويستمر6 أشهر في قصر الوطن حتى أبريل 2026
«الحبر الذهبي» في أبوظبي يرسم تاريخ المعرفة عبر ألف عام من المخطوطات
تاريخ النشر

تجسدت قرون من العلم والإيمان والفن في معرض «الحبر الذهبي: رحلة في المخطوطات العربية والإسلامية» الذي افتُتح في أبوظبي، حيث أتاح للزوار فرصة فريدة للتعرف عن قرب على كيفية إسهام المعرفة المكتوبة بخط اليد في بناء الحضارات ولا تزال تلهم العالم الحديث حتى اليوم.

ويعدّ هذا المعرض ثمرة تعاون رائد بين دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي وجامعة ماكغيل الكندية، ويمتد على مدار ستة أشهر في قصر الوطن حتى أبريل 2026، قبل أن ينتقل إلى مدينة مونتريال في يناير 2027.

يرصد معرض «الحبر الذهبي» أكثر من ألف عام من التراث العلمي والفكري من خلال مجموعة نادرة من المخطوطات المأخوذة من مكتبات أبوظبي، ومتحف اللوفر أبوظبي، ومتحف زايد الوطني، والمجموعات الخاصة بصاحب السمو الشيخ خالد بن محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، إضافة إلى مكتبة الدراسات الإسلامية في جامعة ماكغيل، في أول مشاركة من نوعها لمخطوطات الجامعة خارج كندا.

من الإيمان إلى الفن الرفيع

تبدأ رحلة المعرض بـ«تطور الخط العربي»، مستعرضة تطور الكتابة من المخطوطات الكوفية الأولى إلى فنون التذهيب الدقيقة في نسخ القرآن الكريم. ومن أبرز المعروضات قطعة كوفية ترجع إلى القرن الثامن الميلادي، حيث تمتد الحروف الزاويّة بالحبر الداكن على رق مصنوع من جلد الحيوان.

وقالت دعاء نونو، أمينة المخطوطات في مكتبات أبوظبي: «في ذلك الوقت، بدأ الناس بتجميل الكتابة حفاظاً على القرآن الكريم، وما كان ضرورة أصبح فناً قائماً بحد ذاته».

ومن أبرز القطع المعروضة صفحة مذهلة من «المصحف الأزرق»، وهو تحفة فنية من القرن التاسع الميلادي كُتبت بالذهب على رق مصبوغ باللون النيلي، ويُعتقد أنه أُنتج في الأندلس. ونظراً لهشاشته، تُعرض هذه الصفحة لمدة شهر واحد فقط، وتجسد كيف امتزج الجمال بالإيمان في بدايات الفن الإسلامي.

نساء كتبن التاريخ

يسلط المعرض الضوء أيضاً على الدور المغفول للنساء في ثقافة المخطوطات. وتُعرض فيه مخطوطة نادرة خطتها الكاتبة أسماء القاهرية أثناء رحلتها من القاهرة إلى جدة لأداء فريضة الحج، وقد دوّنت في نهايتها ملاحظة مؤثرة تقول فيها: «اعذروا أخطائي، فقد كتبت هذا في السفر».

وأوضحت نونو أن أسماء كانت تكتب النسخة التي يتلوها والدها أثناء الرحلة، بينما كانت تحتضن طفلها، مضيفة: «هذا يعكس أن النساء لم يكن متلقّيات للعلم فحسب، بل فاعلات في إنتاجه ونقله».

وفي قسم مجاور، يُكرَّم اسم شهدة البغدادية، خطاطة القرن الثاني عشر، الملقبة بـ«فخر النساء»، والتي تتلمذ على يديها أهم كتّاب العصر العباسي.

جسر بين العوالم

يتنقل الزوار بين أقسام موضوعية تسرد تطور الكتابة العربية من جذورها النبطية إلى المخطوطات العلمية والأدبية المزخرفة بعناية. ويُخصص أحد الأقسام للملاحظات الهامشية التي كان يدوّنها العلماء والطلاب وأصحاب الكتب، كتعليقات وردود، بحيث تتحول المخطوطة نفسها إلى مساحة حوارية عبر الزمن.

وقالت نونو: «لم تكن المخطوطات مجرد كتب جامدة، بل كانت حوارات حيّة. في بعض الصفحات يمكن أن تجد آثار خمسة أو ستة كتّاب مختلفين ولغات متعددة، وأحياناً ملاحظات أشبه بالملصقات اللاصقة، قبل قرون من اختراعها».

وترتكز روح التعاون داخل المعرض على هذا التبادل المعرفي. وذكرت الدكتورة غيلين بودري، عميدة مكتبات جامعة ماكغيل، أن هذا الحدث يمثّل المرة الأولى التي تُعار فيها مخطوطات الجامعة خارج حدود كندا، وقالت: «غالبيتها جاءت من متبرعين أفراد، وقد اعتدنا إعارتها لمتاحف مونتريال أو تورونتو، لكن لم يحدث من قبل أن تجاوزت المخطوطات حدود البلاد. إنها لحظة خاصة جداً وخطوة كبيرة عبر الحدود».

وأوضحت أناييس سلامون، رئيسة مكتبة الدراسات الإسلامية في ماكغيل والمشرفة المشاركة على المعرض، أن عملية الاختيار استندت إلى سرد القصص، وقالت: «حددنا المحاور العامة ثم بحثنا عن المخطوطات التي تجسدها بأفضل شكل. واخترت بنفسي ما رأيته الأجمل بصرياً والقادر على مخاطبة حس الزائر».

إشراقات العلم

في قسم بعنوان «إشراق المعرفة»، تُعرض مجموعة من المخطوطات العلمية التي تمزج بين البحث التجريبي والفن البصري، من نصوص في علم الصيدلة مزيّنة بالزهور إلى مؤلفات فلكية مزدانة بتذهيب دقيق ورسومات للكواكب.

ومن أروع ما جاء من جامعة ماكغيل مخطوطة جغرافية تصوّر العالم من منظور الكعبة المشرفة في مكة المكرمة، حيث تُظهر الخريطة مقلوبة الاتجاه لتضع الحرم الشريف في مركزها ـ تعبيراً بصرياً عن الإيمان بوصفه محور المعرفة.

وتعرض مخطوطة أخرى كيف احتفظ المسلمون الأندلسيون، بعد سقوط غرناطة، بهويتهم الدينية واللغوية من خلال كتابة كلمات إسبانية بحروف عربية، في أسلوب يُعرف باسم «الألخميادو». وعلّقت نونو قائلة: «لم يكن بإمكانهم استخدام العربية علناً، فكتبوا الإسبانية بخط عربي ليحافظوا على إيمانهم ولغتهم سراً».

تصميم مستوحى من فنون المخطوطات

يستلهم تصميم المعرض ذاته جماليات فنون المخطوطات؛ فزخارف جدرانه مقتبسة من ديوان حافظ الشيرازي المحفوظ في ماكغيل، بينما استلهمت الألواح المعروضة عناصرها النباتية والهندسية من لوحات المنمنمات المغولية.

وأوضحت نونو: «المعرض لا يقتصر على عرض الكتب الجميلة فحسب، بل يهدف إلى إظهار مدى عمق هذا الإرث في الفن والعلم وطريقة الناس في فهم الجمال والمعرفة».

وتستمر شراكة جامعة ماكغيل ضمن هذا المشروع، إذ سينتقل المعرض كاملاً إلى مونتريال عام 2027 ليتيح للجمهور الكندي الاطلاع على النسخ نفسها من المخطوطات. وقالت الدكتورة بودري: «إنها رسالة نود أن نوصلها إلى مجتمعنا، مفادها: انظروا إلى هذه الروائع، فهنا يكمن جزء من جذور علمنا وتراثنا الإنساني».

موصى به

No stories found.
Khaleej Times - Arabic Edition
www.khaleejtimes.com