المشهد في جدة سريالي ومقدس في نفس الوقت. تحت مظلات صالة الحج الغربية في مطار الملك عبد العزيز الدولي، يتجه الزوار مباشرة نحو صالات العرض ذات الإضاءة الخافتة والمبنية خصيصاً، حيث تعرض بعض من أندر وأغلى الأشياء في العالم، والتي ستدهش أي شخص مهتم بالثقافة. نحن الآن في الدورة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية، الذي يحمل عنوان "وما بينهما"، والذي افتتح في 25 يناير/كانون الثاني وسيستمر عرضه في جدة حتى 25 مايو/أيار. وقد تم اشتقاق عنوان المعرض من القرآن الكريم، ويمكن الحكم على أهميته من خلال حقيقة أن هذه العبارة تتكرر عشرين مرة في النص.
القسم الأول من المعرض، الذي يحمل عنوان "البداية"، يعد بوابة حقيقية إلى هذا البينالي، ويجسد جوهر بيت الله وكلام الله تعالى. يدعونا هذا الفضاء إلى تجاوز العالم المادي للحظة والتأمل في أهمية الدين والطقوس والتقوى والروحانية، كما يشجعنا على الانخراط في الإنتاج الثقافي من خلال قلوبنا وعقولنا وأيدينا.
من أبرز ما يميز البينالي هو معرض "البداية". على خلفية بيضاء، تتدلى كسوة الكعبة من السقف بينما تتعالى أصوات الآيات القرآنية في الأجواء. تُعد الكسوة مشهداً مهيباً من الناحية البصرية، وهي عادةً ما تُستخدم لتغطية الكعبة أثناء الحج أو العمرة التطوعية، ولكن هنا، يُرحب بالناس من جميع الأديان للإعجاب بهذه الستائر المقدسة التي تُستخدم منذ قرون لتزيين أقدس مزار في الإسلام. أما بالنسبة للكسوة نفسها، فهي تبدو مهيبة وإلهية، وفجأة يصبح من السهل الوصول إليها. وفقاً لإحدى الروايات التاريخية، كان النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) هو من غطى الكعبة بقماش من اليمن، ولكن على مر العصور، تغيرت مواد الكسوة من حصائر القصب والجلد إلى الحرير والقطن.
خلال جولة ثاقبة، يشرح الدكتور "جوليان رابي"، الباحث في الفن الإسلامي والآسيوي، والذي يعمل كأحد المدراء الفنيين لبينالي الفنون الإسلامية إلى جانب الدكتور أمين جعفر والدكتور عبد الرحمن عزام، الأهمية الخاصة لاختيارات التصميم في معرض "البداية". يقول الدكتور رابي، المحاضر السابق في الفن والعمارة الإسلامية في جامعة أكسفورد والمدير السابق للمتحف الوطني للفن الآسيوي في مؤسسة سميثسونيان في واشنطن العاصمة: "ما لدينا هنا هو توازن دقيق بين اللون الأسود للكسوة والشفافية البيضاء للجدران. يرتدي الحجاج ثوب الإحرام الأبيض أثناء الطواف حول الكعبة، وهو اللون الذي يجسد النقاء والبراءة، بينما لا يعتبر اللون الأسود مجرد جانب تصميمي، بل إنه يعكس في الواقع القوة التأملية لله - كما هو موضح في عبارة 'ذو الجلال والإكرام'، والتي تعني 'رب الجلالة والنعمة'".
ومن بين القطع الأثرية البارزة الأخرى في صالات البداية، مدرج أو درج من تشيبوك في الهند، ونسخة ضخمة من القرآن الكريم، ومفتاح الكعبة (الذي يعود تاريخه إلى الفترة ما بين 1240 و1340 ميلادي، ويُكتب عليه آيات قرآنية بشكل جميل)، والذي ينتمي إلى عائلة بني شيبة منذ أجيال، حيث منحهم النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) هذا الامتياز.
وقد تم تكليف نواب أعظم جاه بهادور وآجا الرابع من جنوب الهند بصنع هذا المدرج، الذي يتميز بزخارف مستوحاة من فن الباروك. تم تعبئته ونقله بواسطة شركة الهند الشرقية على متن سفينة متجهة إلى جدة. وإلى جانب الكنوز التاريخية الثمينة، يتضمن قسم البداية أيضاً عروضاً لفنانين معاصرين مثل نور جودا، وحياة أسامة، وسعيد جبان، وأحمد مطر، وهم فنانون عرب، بعضهم يقيمون في المملكة العربية السعودية. ويُكملهم أسماء غربية مثل عبد القادر بن شمة، وأركانجلو ساسولينو، وآصف خان.
وتتمحور أعمال الفنانة الليبية نور جودا حول المنسوجات المصبوغة يدوياً والمواد الطبيعية. ويتجه تركيبها النسيجي "قبل السماء الأخيرة" نحو مكة المكرمة، ويجسد الطقوس الإسلامية للصلاة اليومية. يعرض هذا العمل ثلاثة أوضاع في الصلاة يؤديها المسلمون خمس مرات في اليوم - الركوع، والقيام، والسجود.
أقمشة احتفالية
وتقيم حياة أسامة في جدة الآن، وقد قدمت عملاً نسيجياً نابضاً بالحياة يستخدم القماش لتكريم المجتمع والحي العلماني في الرياض حيث نشأت الفنانة. ولإنشاء هذا التركيب الاحتفالي على طول الممر، جمعت حياة أسامة أقمشة مألوفة بما في ذلك بقايا المواد من المناسبات الاحتفالية لجيرانها.
ومن ناحية أخرى، تعكس الثريا "نفس" لسعيد جبان تاريخ جدة كمدينة ساحلية علمانية، بينما يحتفل عمل المهندس المعماري والفنان آصف خان "نور على نور" بعلاقة القرآن بالضوء، وهو عنصر أساسي في الفيزياء ومرتبط بالخلق في الإسلام. على سبيل المثال، تصف سورة النور القرآنية الله بأنه نور السماوات والأرض، "نور على نور" إذا جاز التعبير، ويستكشف عمل خان على الورق المطوي مفهوم الضوء جسدياً ومجازياً.
أما عمل "مغناطيسية" للفنان السعودي أحمد مطر، فيعد أحد أبرز الأعمال المعروضة، حيث يعيد تصور الكعبة في نسخة مصغرة تُظهر جزيئات الحديد وهي تتحرك، منجذبة بشدة إلى المسجد الحرام في مكة. ويرمز هذا العمل في الوقت نفسه إلى الأمة المنجذبة بشدة إلى جاذبية مكة المغناطيسية في حالة من الانسجام، ويعمل كمظهر من مظاهر الكواكب والأجرام السماوية التي تدور حول كيان لا يمكن تسميته ولا يوصف، وهو كلي العلم وأبدي، كما هو موضح في القرآن.
يمتد البينالي هذا العام على مساحة 100 ألف متر مربع من مساحة العرض المخصصة، ويتألف من سبعة مكونات رئيسية. بخلاف "البداية"، هناك أيضاً "المدار"، "المقتني"، "المظلة"، "المكرمة"، "المنورة"، و"المصلى". يشارك في هذا الحدث أكثر من 30 مؤسسة دولية كبرى، في حين يعرض حوالي 30 فناناً من المملكة العربية السعودية وخارجها، مع 29 تكليفاً جديداً. ومن خلال أكثر من 500 قطعة رائعة، يقدم البينالي، الذي يُعتبر جوهره، أعمالاً فنية مميزة.
ويقدم معرض "الفن الإسلامي" الذي صممته شركة الهندسة المعمارية العالمية OMA قصة غنية عن تاريخ الحضارة الإسلامية عبر العصور، ويكشف عن الحكمة والألوهية المتجسدة في هذه التحف الفنية الرائعة. كما يبرز التراث العلمي والفكري للعالم الإسلامي، الذي يأمل القائمون على المعرض أن يسهم في تعزيز الفهم الأفضل والأدق للإسلام في القرن الحادي والعشرين
في "المدار"، قدمت بلدان مختلفة كنوزاً ثمينة، يسلط العديد منها الضوء على الإنجازات والاختراعات الإسلامية في مجالات الرياضيات والهندسة والجغرافيا والعلوم والفلك. تبدأ الرحلة في هذا المعرض بأقدم إسطرلاب برونزي معروف، الذي يُحتمل أن يكون قد صُنع في بغداد، ومن هنا تصبح الأمور أكثر إثارة مع مرورك بالمخطوطات القديمة مثل الترجمة العربية لكتاب "المخروطيات"، وأبواب ضريح السيدة نفيسة، والجواهر الخرائطية. كما تتعرف على كيف وصل التقليد اليوناني في علم الفلك إلى العالم الإسلامي من خلال ترجمات أعمال بطليموس، عالم الرياضيات والفلك الإسكندري من القرن الثاني الميلادي.
وقد شاركت مكتبة الفاتيكان الرسولية بـ 11 قطعة رائعة تعرض حالياً في "المدار"، بما في ذلك خريطة نهر النيل. وهذه القطعة تمثل لفتة دبلوماسية ثقافية من الشرق الأوسط وتظهر كرم مدينة الفاتيكان
تشكل مجموعتان من أبرز المجموعات الفنية في العالم، مجموعة آل ثاني ومجموعة مؤسسة الفروسية للفنون، توازناً متناقضاً ومتماسكاً في جناح المقتاني. ففي حين تركز مجموعة آل ثاني على التنوع الغني للفن الإسلامي، وخاصة المجوهرات التي تعود إلى عصر المغول، تحتفي مؤسسة الفروسية للفنون بأسلحة ودروع العالم الإسلامي. وتمثل مجموعة آل ثاني رؤية الشيخ حمد بن عبد الله آل ثاني، أحد أفراد العائلة المالكة في قطر، الذي يتمتع بشغف عميق بالفنون والجماليات الراقية، ونظرة لا تخطئ إلى الجمال والمصدر.
الاهتمام الرئيسي لهذا القسم يتركز على الأحجار الكريمة واللؤلؤ وكل ما هو قديم واستثنائي. نرى مرش ماء الورد الرائع المرصع بالجواهر من خزانة المغول، وأقدم قطعة من اليشم المغولي المؤرخة والتي تسمى كأس جهانجير، وطبقاً عتيقاً مزيناً بأعمال معدنية تحتفل بنهر النيل، وثوباً حريرياً فاخراً لأمير سلجوقي من إيران/آسيا الوسطى، وقطعة شطرنج من لعبة نشأت في فترة جوبتا ولا تزال معروفة في جميع أنحاء الهند باسمها العربي "شطرنج"، وقلادات مذهلة مصنوعة باستخدام تقنية الكوندان الهندية.
الجامع
يقول الدكتور أمين جعفر، مدير مجموعة آل ثاني، إن الشيخ حمد بدأ في جمع التحف في سن الثامنة عشرة، مدفوعاً بحماسه الأولي لعمارة عصر النهضة. واليوم، تضم مجموعته أكثر من 5000 قطعة. وفي الوقت نفسه، قام قطب الأعمال السعودي رفعت شيخ الأرض بتجميع مجموعة مؤسسة الفروسية للفن. وبحسب ما ورد، تحتوي مؤسسة الفروسية على أكثر من 1000 قطعة، بما في ذلك الخناجر الإسلامية والدروع والسيوف. يتم عرض العديد من أفضل روائعها في البينالي، وبعضها يُعرض للجمهور لأول مرة مثل الأعمال المعدنية المملوكية المعروضة. وفي حديثه إلى (ويكند) Wknd. حول هاتين المجموعتين، يقول الدكتور جعفر، "أردنا جمع هاتين المجموعتين ليس فقط للاحتفال بإنجازات جامعي التحف، ولكن أيضاً لأنها تمثل اتساعاً غير عادي للإنجازات الفنية الإسلامية. نحن لا نعرض الأشياء فحسب، بل نروي قصة غنية عن براعة الإنسان وإبداعه. كل قطعة هي شهادة على الحرفية والثقافة عبر الحضارات الإسلامية. ونأمل أن يتمكن الزوار من رؤية ما هو أبعد من الأعمال الفنية الفردية، ليتعرفوا على الترابط العميق وجمال التقاليد الفنية عبر الثقافات الإسلامية المختلفة والفترات التاريخية".
الفنان السعودي مهند شونو هو أمين الفن المعاصر في البينالي. من خلال إحاطة الفن المعاصر بالأشياء التاريخية، يهدف البينالي إلى مواصلة الحوار بين الماضي والحاضر وبين المحلي والعالمي. من خلال المعارض في المساحات الداخلية والخارجية، تضيف القطع والمنشآت الفنية المعاصرة إلى فكرة التبادل الثقافي وتتحدث بلغة أصغر سناً بكثير، وهو ما يجب أن يتردد صداه مع جمهور أصغر سناً. من بين الأعمال البارزة "نائمو الكهف" للفنانين المولودين في باكستان إقرا تنوير وإحسان الحق، المستوحى من مثل من سورة الكهف في القرآن الكريم، و"من ركام" للفنان الهندي عاصم وثيق، وهي مجموعة غامرة وتفاعلية من الخيزران.
مدينة جدة التاريخية الواقعة عند أطراف المدينة الحمراء على أعتاب مكة والمدينة، تشكل خلفية مثالية لبينالي من هذا النوع.
ومن الواضح أن المملكة العربية السعودية، إلى جانب أهميتها الروحية، ليست فقط حارسة المدينتين المقدستين، بل إنها تبرز بشكل متزايد كقوة ثقافية.
تستمر فعاليات النسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية في قاعات الحجاج الغربية بمطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة حتى 25 مايو المقبل.