من المشاهد العائلية والزخارف الخطية الإسلامية الدقيقة إلى النسيج المتغير للحياة العربية وأعمال «لابوبوس» السريالية والأحلام المصاغة بأسلوب الباتيك النقي، يشكل المعرض القائم بعنوان «آفاق بين أيديهن» في متحف إثراء بالظهران، المملكة العربية السعودية، احتفاءً مذهلاً بقدرة النساء الفنية.
يُقام هذا المعرض بالتعاون مع مؤسسة بارجيل للفنون التي تتخذ من الإمارات مقرًا لها، ويشرف عليه القيّم الفني ريمي هومس. ويُعد هذا الحدث الفني البارز داخل مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» — الذي صممته شركة «سنوهيتا» على شكل حصاة — تسليطًا للضوء على أعمال 50 فنانة من العالم العربي كان لهن دور جوهري في حركة الفن الحديث، مع تركيز خاص على الفترة ما بين ستينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهي الحقبة التي شهدت تحولات اجتماعية وسياسية كبرى في العالم العربي. وقال هومس: «خلال الستينيات والثمانينيات، حصلت العديد من دول المنطقة على استقلالها، وظهرت دول قومية جديدة، وأدت حركة التحديث السريعة في المدن الكبرى إلى إعادة تشكيل العلاقة بين المناطق الحضرية والريفية. وفي هذا السياق، دمج العديد من الفنانين المشاركين في المعرض الحِرف في أعمالهم كوسيلة لاستكشاف مفاهيم الحداثة والتعبير عنها».
وأضاف: «لقد لعبت الفنانات دورًا أساسيًا في هذا المسعى، رغم أن مساهماتهن كثيرًا ما همّشت في التاريخ الفني السائد». ويمنح معرض «آفاق بين أيديهن» مساحة تصحيحية لذلك التهميش التاريخي، إذ يجمع أجيالاً وجغرافيات وحركات فنية مختلفة. ويضم المعرض فنانات من أكثر من 12 دولة، من بينها الكويت والمغرب وتونس والبحرين وسوريا والجزائر والإمارات والسعودية وفلسطين، فضلًا عن أسماء بارزة مثل شيخة إبراهيم، فلة الكافي، نادية محمد، رضى أحمد، صفية فرحات، صفية بن زقر، منى المنجد، نوال كمال، فاطمة حسن الفروج، منيرة الموصلي، إلى جانب مجموعة مركز ويسا واصف للفنون في مصر.
ويرتكز المعرض في سياقه الثقافي العربي على تكريم الفنانات اللواتي حافظن على الحِرف اليدوية التقليدية مثل النسيج والحناء والتطريز والزجاج والنحاس والنسيج الجداري والخزف والفن المختلط الوسائط، مقدمًا للزوار نافذة على العالم المتعدد الأصوات للفن النسوي العربي وكيف تمكنّ من تجاوز التحديات في عالم الفن الذي يهيمن عليه الذكور لإعادة تشكيل الفن الحديث في مجتمعاتهن وترك بصمة تاريخية عميقة.
وقد بُذل جهد بحثي وفكري كبير في صياغة معرض «آفاق بين أيديهن»، الذي لا يقتصر على تحدي المفاهيم الجندرية السائدة في عالم الفن — الذي كان لعقود طويلة ساحة يغلب عليها الطابع الذكوري — بل يسعى أيضًا إلى طمس الحدود الفاصلة بين «الفن الجميل» والحِرفة. وتُذكّر الأعمال المعروضة بأن الفن المستلهم من المواد المنزلية والأدوات اليومية لا يقل قيمة ما دام نابضًا بالصدق والإبداع واللمسة الشخصية.
لقد أبدعت الفنانات أعمالهن في فترات الاضطرابات الاجتماعية، مستفيدات من بيئتهن المباشرة، مستخدمات مواد بسيطة وتقنيات محلية لتفجير طاقاتهن الإبداعية. واليوم يُطلق المؤرخون على ذلك «استعادة ثقافية»، لكن في تلك الحقبة لم تكن هذه المصطلحات قد وُلدت بعد. وفي كثير من الحالات، أعادت الفنانات ابتكار المواد التقليدية في أشكال ذات طابع مغاير وساخر خفيًا.
فعلى سبيل المثال، استخدمت الفنانة الإماراتية نجاة مكي الحناء — التي كانت تُعد سابقًا مجرد هواية نسائية — لإنجاز عملها التجريدي عام 1987 بعنوان «النافذة»، متحدّية بذلك النظرة الأوروبية المتعالية التي تحدد ما ينبغي اعتباره «فنًا راقيًا». وبطريقة مشابهة، لجأت الفنانة الجزائرية عائشة حداد إلى الجبس لإنجاز لوحتها «مدينة مزاب» (1984) في وقت كانت المواد القماشية فيه نادرة في بلادها. وفي أرجاء المعرض، يتجول الزائر بين أعمال فلة الكافي الخزفية التي تعكس الثورة الزراعية في تونس، ولوحة الفنانة الفلسطينية فيرا تماري «نساء فلسطينيات في العمل» (1979)، وكذلك أعمال منى المنجد المبهرة مثل «مئذنة المسجد» (1984) التي تجسد سحر جدة القديمة باستخدام تقنيتي الغوتا والباتيك، بينما تستعيد فنون التطريز لدى شيخة إبراهيم مشاهد الحياة اليومية في قريتها الفلسطينية، فيما تجذب الأنظار لوحة صفية فرحات النسيجية «العروس» بألوانها الزاهية، إلى جانب أعمال النساجين في مركز ويسا واصف للفنون في مصر، الذين حافظوا على أساليب الحياكة والفنون اليدوية التقليدية في مواجهة المدّ التجاري والتحديث السريع.
ويمثل تسليط الضوء على الفنانات السعوديات محورًا أساسيًا في المعرض. تقدم لوحة فاطمة حسن عسيري نموذجًا غنيًا لفن «القط العسيري» التقليدي الذي نشأ في منطقة عسير جنوب المملكة. أما منى المنجد — وهي فنانة وأكاديمية — فتنتمي إلى جيل من المبدعات السعوديات الملتزمات بتوثيق تاريخ الحداثة في المملكة. ويقول هومس عنها: «إلى جانب عملها الواسع في قضايا النوع الاجتماعي والتنمية في العالم العربي، مارست منى المنجد فنونها منذ طفولتها، حيث تمثل أعمالها نقطة التقاء خصبة بين الفن والحِرفة بفضل براعتها في تقنيتي الغوتا والباتيك. فهي ليست فقط حارسة للتقاليد التقنية بل موثقة لإرث بلادها الثقافي».
ولا يمكن لأي معرض من هذا الحجم أن يخلو من أعمال صفية بن زقر — الرائدة التي أسهمت في ترسيخ الفن والثقافة في السعودية. يضم قسم «قيد التركيز» مجموعة من اسكتشاتها ولوحاتها. ويقول هومس: «تُعد صفية بن زقر شخصية محورية في تاريخ الفن بالمنطقة، فهي أول امرأة تنظم معرضًا فرديًا في المملكة عام 1968، كما سعت في أعمالها إلى توثيق تقاليد المنطقة من خلال تصوير عمارتها وملابسها التقليدية وأنشطتها مثل الصقارة». وأضاف أن هذا المعرض يمثل أول تعاون لمؤسسة بارجيل للفنون في المملكة، مشيرًا إلى أن الفكرة بدأت منذ أوائل عام 2025 كجهد مشترك بين المؤسستين للاحتفاء بالإبداع الفني في العالم العربي. وتابع: «جوهر عملنا في المؤسستين يقوم على الحفاظ على التراث الثقافي والتعبير عنه ومشاركته من خلال مجموعاتنا الفنية».
تأسست مؤسسة بارجيل للفنون على يد سلطان سعود القاسمي عام 2010 في الشارقة، وتضم أكثر من 2000 عمل فني من مختلف أنحاء العالم العربي. وخلال العقد والنصف الماضيين أصبحت أحد أبرز المؤسسات العالمية في تقديم الفنون العربية إلى أهم المنصات الثقافية في العالم.
أما بالنسبة لمركز إثراء (مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي)، فإن من المهم أن تُسمع هذه الأصوات النسائية. تقول فرح أبو شليح، مديرة متحف إثراء: «ما ألهمني في إعداد هذا المعرض أن هؤلاء الفنانات قدمن أعمالهن في منازلهن، وفي فصول دراسية أنشأنها بأنفسهن، وفي استوديوهات غالبًا ما كانت بعيدة عن اهتمام المؤسسات». وتضيف: «في وقت تعيد فيه السعودية تعريف مفهوم التقدم، تثبت هذه القصص أن التغيير الثقافي كان دائمًا له محرّك صامت ومخلص — وهو حضور النساء اللاتي يُبدعن ويُدرّسن ويُوثّقن ويُلهمن التغيير الاجتماعي الإيجابي».
وتتابع: «أهمية هذه السرديات تكمن في قدرتها على توسيع آفاق الرؤية وسدّ الثغرات المعرفية في التاريخ الفني. إنها تُظهر أن الحداثة الفنية في العالم العربي لم تكن طريقًا واحدًا، بل طرقًا متعددة — حيث ارتقت الحِرفة إلى مصاف الفن الراقي، وأُعيد تخيل الهندسة الإسلامية، وتحولت البيوت إلى فضاءات للابتكار. ولجمهورنا من الشباب، وخاصة الفتيات، يُشكل هذا تمثيلاً حقيقيًا ونموذجًا عمليًا يقول لهن: يمكنكِ أن ترثي التقاليد وتبتكري المستقبل في الوقت ذاته».
ذلك المزج بين الأصالة والتجديد، وبين الماضي والمستقبل، والمحلي والعالمي، هو ما يجسده معرض «آفاق بين أيديهن» بدقة متناهية.
يستمر عرض «آفاق بين أيديهن: فنانات من العالم العربي (1960 – 1980)» في متحف إثراء بالظهران حتى 14 فبراير 2026.
wknd@khaleejtimes.com