من طالب مثالي إلى مدمن رقمي: رحلة تعفن الدماغ
تتذكر "جوان هانتر"، الأم العزباء، اليوم الذي أدركت فيه أن تفاعل ابنها عبر الإنترنت خرج عن السيطرة. جوان، وهي مغتربة أيرلندية عاشت في مدريد قبل انتقالها إلى دبي، تصف ابنها بأنه كان طالباً متفوقاً في دراسته، شغوفاً بالعزف على الطبول ضمن فرقة المدرسة، وبرز بوضوح في مختلف الجوانب. تقول: "كان ابناً مثالياً، متميزاً أكاديمياً، ومشاركاً نشطاً في الأنشطة اللامنهجية. كل شيء كان على ما يرام". لكن، مع حصوله على أول هاتف ذكي في سن العاشرة، بدأت تلك الصورة المثالية تتغير تدريجياً.
ما بدأ كفضول رقمي بريء سرعان ما تحول إلى كابوس. اكتشفت جوان صوراً مقلقة على حساب ابنها في سناب شات، كانت تظهر شخصاً يدّعي أنه فتاة صغيرة، لكن تبيّن لاحقاً أنه رجل بالغ. تقول جوان: "شعرت وكأنني سأفقد الوعي. فكرة أن يتعرض طفلي الصغير والواثق لموقف كهذا كانت صادمة ومدمرة".
لم يكن عالم الألعاب أفضل حالاً، إذ بدأ الغرباء على الإنترنت في التلاعب بابنها، مما تسبب في نوبات من السلوك العدواني داخل المنزل ومطالبات متكررة بالحصول على المال. تقول جوان: "أصبح عدوانياً للغاية، ولم يعد ينام كالمعتاد، بل إنه في أحد الأيام أغلق على نفسه باب الحمام. اضطررت حينها إلى الاتصال بالشرطة". ورغم جلسات العلاج والاستشارة، استمرت معاناة جوان، إلى أن اتخذت القرار الصعب بإرساله إلى مدرسة داخلية في أيرلندا. وتضيف: "في مرحلة ما، فكرت حتى في اللجوء إلى إعادة التأهيل، فقد خرج الوضع تماماً عن السيطرة".
ولكن ما الذي أدى إلى المأزق الذي يعيشه ابنها؟ إن تصفح الإنترنت باستمرار، والالتصاق بالأجهزة، واستهلاك وسائل التواصل الاجتماعي ــ رغم أنها تبدو غير ضارة في البداية ــ أدى إلى ادمان ضار.
يعكس هذا الإدمان الرقمي اتجاهاً أوسع وأكثر إثارة للقلق، يُعرف اليوم باسم "تعفن الدماغ" — وهو المصطلح الذي اختارته جامعة أكسفورد ككلمة العام لعام 2024. يعبّر هذا المصطلح عن الضرر المعرفي والعاطفي الناتج عن التعرض المفرط للمحتوى الرقمي السريع والسطحي، لا سيما في عصر هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي.
ما هو "تعفن الدماغ"؟
من الناحية النفسية، يشير مصطلح "تعفن الدماغ" إلى تدهور الوضوح العقلي والاستقرار العاطفي، نتيجة التعرض المفرط للتحفيز الذي تسببه الوسائط الرقمية. تصف "ماريسا بير"، المعالجة النفسية العالمية الشهيرة، هذا المفهوم قائلة: "إن ما يحدث عندما نُثقل عقولنا بمحتوى سطحي لا يضيف لنا قيمة حقيقية. يشبه الأمر الإفراط في تناول الوجبات السريعة، حيث نحصل على الكثير من السعرات الحرارية الفارغة التي تفتقر إلى المغذيات الضرورية. ومع مرور الوقت، نشعر بالتشتت، وعدم الرضا، والاستنزاف الذهني".
تشبّه الدكتورة "أديشري ياداف"، أخصائية علم النفس السريري في عيادات بوتنتيا، هذه الظاهرة بترك العديد من علامات التبويب مفتوحة على جهاز الكمبيوتر. وتوضح قائلة: "يصبح الدماغ في حالة من التحفيز المفرط، مما يؤدي إلى الشعور بالإرهاق والارتباك. مع مرور الوقت، تُستنزف النواقل العصبية، مثل الدوبامين والسيروتونين، وهما المسؤولان عن مشاعر السعادة والتركيز".
توضح الدكتورة "أولجا أكسينوفا"، عالمة النفس المؤسسية في شركة "فلوو"، أن المصطلح يبرز أيضاً تأثير التفاعل الرقمي المستمر في قمع الوظائف الإدراكية العليا. وتقول: "يتعرض الفص الجبهي، المسؤول عن اتخاذ القرارات والتفكير التحليلي وحل المشكلات، لضغط مستمر بسبب تدفق المعلومات المتواصل. مع مرور الوقت، تتراجع قدرتنا على ربط الأفكار أو الانخراط في تأمل عميق وهادف، مما يؤدي إلى تضييق نطاق تفكيرنا".
ليس تشخيصاً سريرياً
على الرغم من أن "تعفن الدماغ" ليس تشخيصاً سريرياً في الوقت الحالي، فقد أصبح استعارة شائعة لوصف العبء المعرفي الزائد. توضح الدكتورة أكسينوفا قائلة: "يشير هذا المصطلح إلى تضييق نطاق التركيز بسبب التعرض المستمر لمعلومات سطحية وسريعة الإيقاع. ومع مرور الوقت، يؤثر ذلك سلباً على الانتباه، والذاكرة، والقدرة على اتخاذ القرارات".
ويضيف الدكتور "ساجار كاوالي"، أخصائي طب الأعصاب في المركز الطبي الوطني، أن التمرير المستمر على مواقع التواصل الاجتماعي يخلق حلقة مفرغة من الاعتماد المتزايد على الآخرين. ويوضح قائلاً: "تم تصميم خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي لاستغلال نظام الدوبامين الطبيعي في دماغنا. فكل إعجاب، أو تعليق، أو قطعة جديدة من المحتوى تمنحنا مكافأة صغيرة. ولكن مع مرور الوقت، يختطف هذا النظام قدرة الدماغ على إيجاد الرضا في تجارب أعمق وأكثر مغزى
كيف تساهم وسائل التواصل الاجتماعي في تغذية "تعفن العقول"
ليس من المستغرب أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي في قلب هذه الاضطرابات. تزدهر منصات مثل تيك توك و انستغرام و يوتيوب شورتس بفضل قدرتها على التلاعب بكيمياء أدمغتنا. تعمل خوارزمياتها بشكل دقيق على اختيار المحتوى الذي يبقي المستخدمين مشغولين لأطول فترة ممكنة، وغالباً على حساب صحتهم العقلية.
تقول الدكتورة أكسينوفا: "كل إعجاب أو تعليق أو قطعة جديدة من المحتوى تحفز إفراز الدوبامين، مما يعزز الرغبة في الاستمرار في التمرير". ومع مرور الوقت، يؤدي الاعتماد على هذه المكافآت السريعة إلى تقليص قدرة الدماغ على التفاعل بشكل أعمق. وتضيف: "إنه مثل تدريب عقلك على العمل على المستوى السطحي فقط، مما يجعل من الصعب التركيز أو التأمل بشكل هادف".
تشير بير إلى أن الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي يجعل عقلك ينتقل من موضوع إلى آخر دون التركيز الكامل على أي منها. وتوضح قائلة: "يشبه الأمر تقليب قنوات التلفزيون كل بضع ثوانٍ؛ حيث تتعرض لكميات ضخمة من المعلومات، لكنك لا تحتفظ بأي منها. ومع مرور الوقت، تبدأ في فقدان صبرك تجاه أي شيء يتطلب اهتماماً مستمراً، مثل قراءة كتاب أو إجراء محادثة هادفة".
تصف الدكتورة نوشين مهربود، أخصائية الأعصاب في مستشفى رأس الخيمة، هذه الظاهرة بأنها حلقة مفرغة، قائلاً: "إن تعدد المهام المستمر — التمرير، والإعجاب، والتعليق — يدرب الدماغ على توقع الإشباع الفوري. ومع مرور الوقت، يؤدي هذا إلى تقليل المادة الرمادية في الدماغ والمرونة العصبية، مما يعيق قدرته على التكيف أو التعلم أو التركيز بعمق".
من الناحية العاطفية، يمكن أن يكون هذا مرتبطاً بعادات مثل التصفح المستمر للإنترنت، أو المقارنة الاجتماعية، أو العزلة، التي تزيد من القلق وتؤثر سلباً على احترام الذات. وهذا يجعل الأجيال الأصغر سناً، مثل الجيل زد والجيل ألفا ، أكثر عرضة للخطر بشكل خاص.
تقول بير: "هؤلاء الأطفال يكبرون وهم يحملون الشاشات في أيديهم، وأدمغتهم لا تزال في طور النمو. هذا التعرض المستمر للشاشات يُدرِّبهم على تجنب التفكير العميق. وهذا ليس خطأهم — بل هو العالم الذي وُلدوا فيه، لكنه يخلق جيلاً يكافح من أجل الانخراط بشكل هادف في العالم الحقيقي".
التكلفة المعرفية والعاطفية
أعراض "تعفن الدماغ" ليست مجرد قصص عرضية، بل يتم توثيقها بشكل متزايد. وتشير الدكتورة ياداف إلى أن هذه الأعراض تشمل انخفاض فترات الانتباه، وعدم الاستقرار العاطفي، والانسحاب الاجتماعي. وتقول: "يبلغ الناس عن شعورهم بالملل والخمول وانعدام الحافز. كما يواجهون صعوبة في اتخاذ القرارات وغالباً ما يشعرون بالعزلة في علاقاتهم. وهذه ليست حالات فردية، بل أصبحت السمة السائدة".
من ناحية أخرى، يؤكد الدكتور كاوالي أن العواقب طويلة الأمد أكثر إثارة للقلق. ويقول: "عندما يتم تحفيز الدماغ بشكل مفرط ومستمر، فإنه يصبح غير قادر على الاحتفاظ بالمعلومات، أو حل المشكلات، أو اتخاذ قرارات مدروسة. وهذا لا يعيق الإنتاجية فحسب، بل يؤثر أيضاً على جوهر طريقة تفكيرنا وتواصلنا".
تضيف بير "يبدو الأمر وكأنك تفقد جزءاً من نفسك - الجزء الذي يتوق إلى الإبداع والتواصل والمشاركة الهادفة. لا تسرق وسائل التواصل الاجتماعي وقتك فحسب، بل تسرق سعادتك أيضاً" .
ما هو الطريق إلى التعافي؟
الخبر السار هو أن آثار "تعفن الدماغ"، رغم كونها مثيرة للقلق، ليست غير قابلة للإصلاح. تؤكد الدكتورة أكسينوفا على أهمية استعادة العافية الإدراكية من خلال الممارسة المتعمدة. وتوضح قائلة: "مرونة الدماغ تسمح له بالتعافي عندما يُمنح المحفزات الصحيحة. يمكن أن تساعد الأنشطة مثل التمارين الرياضية، والمساعي الإبداعية، والتفاعلات المباشرة ذات المغزى في إعادة تفعيل مسارات المكافأة في الدماغ". وتضيف أن التحدي يكمن في الاستمرارية.
وتوافق بير على هذا الرأي، مؤكدة أن الخطوة الأولى هي الوعي. وتنصح قائلة: "يجب أن تتعرف على المشكلة قبل أن تتمكن من حلها. ابدأ بخطوات صغيرة. خصص 15 دقيقة بعيداً عن الشاشات، ثم زدها تدريجياً. استخدم هذا الوقت للقيام بشيء ينشط عقلك حقاً — سواء كان ذلك كتابة المذكرات، أو التأمل، أو حتى مجرد المشي".
وتؤكد الدكتورة ياداف على أهمية القصدية. وتقول: "إن التمرير الواعي — حيث تتفاعل مع المحتوى الذي يلهمك أو يعلمك حقاً — يمكن أن يعوّض تأثيرات التمرير اللامتناهي. يتعلق الأمر بالتحكم في عاداتك الرقمية بدلاً من السماح لها بالتحكم فيك".
دور الوالدين والمعلمين
غالباً ما يبدأ اعتماد الأطفال على الأجهزة الرقمية في المنزل. وتوضح الدكتورة أكسينوفا قائلة: "أصبح الآباء اليوم أقل ميلاً لإشراك أطفالهم في أنشطة غير رقمية. حتى وقت اللعب الأساسي غالباً ما يتحول إلى نشاط يعتمد على الشاشة، مما يمهد الطريق للتدهور المعرفي". وتضيف أن هذا التحول الثقافي يتطلب اهتماماً عاجلاً.
بالنسبة للأجيال الأصغر سناً، لا تقع المسؤولية على الأفراد فحسب، بل أيضاً على الآباء والمعلمين. ويؤكد الدكتور كاوالي على أهمية تقديم نموذج للسلوك الصحي. ويقول: "يقلّد الأطفال ما يرونه. وإذا أظهر الآباء استخداماً واعياً للتكنولوجيا، فإن ذلك يشكل سابقة قوية".
وتضيف بير أن إنشاء مناطق خالية من الشاشات في المنزل، مثل أثناء تناول الوجبات أو قبل النوم، يمكن أن يعزز العادات الصحية. وتقول: "لا يتعلق الأمر فقط بالحد من وقت الشاشة؛ بل يجب ان يتم التوضيح للأطفال أن هناك عالماً خارج شاشاتهم. يمكن أن تكون الهوايات والأنشطة الخارجية وحتى المحادثات البسيطة مفيدة بشكل لا يصدق".
وتقترح الدكتورة أكسينوفا أيضاً تدريس محو الأمية الإعلامية كخطوة حاسمة أخرى. وتضيف: "يحتاج الأطفال إلى فهم تأثير المحتوى الذي يستهلكونه. ومساعدتهم على تطوير مهارات التفكير النقدي سيمكنهم من اتخاذ خيارات أكثر صحة".
"كل شيء يبدأ باختيار"
بينما يكافح الناس مع تداعيات تآكل الدماغ، قد تشكل التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي مجموعة جديدة من المخاطر، والتي يصفها الدكتور كاوالي بأنها "سلاح ذو حدين". ويحذر من أن "استخدامها بشكل مسؤول قد يؤدي إلى إحداث ثورة في التعلم والإبداع والتواصل الاجتماعي. ولكن دون تصميم مدروس، فإنها قد تعمّق اعتمادنا على التحفيز الرقمي المفرط".
من الطريقة التي نعالج بها المعلومات إلى كيفية تواصلنا مع الآخرين وإيجاد المتعة في الأنشطة ذات المغزى، أصبح العبء المعرفي والعاطفي المتزايد لعالمنا المفرط في الاتصال واقعاً قاسياً، يؤثر على مجالات متعددة من حياتنا.
ولكن الخبراء يتفقون على نقطة حاسمة واحدة: رغم أن تعفن الدماغ قد يشكل تحدياً ملحاً، فإنه ليس تحدياً غير قابل للإصلاح. فالدماغ نفسه الذي يتكيف مع التمرير اللامتناهي والمكافآت السطحية لديه القدرة على الشفاء والتكيف والازدهار عندما يتلقى التغذية العقلية المتعمدة والرعاية المناسبة.
وكما تقول ماريسا بير: "قد تكون كلمة تعفن الدماغ هي الكلمة الأكثر انتشاراً هذا العام، ولكنها لا ينبغي أن تحدد السنوات القادمة. فنحن نملك القدرة على استعادة عقولنا ــ ولكن كل شيء يبدأ باختيار".