النفط والاستدامة: دول الخليج تقود التحول البيئي

فادي الشهابي
فادي الشهابي
تاريخ النشر

ثورة الاستدامة في الخليج: كيف يتحول النفط إلى نقطة انطلاق نحو الاستدامة؟

تتوقع المنظمة العالمية للأرصاد الجوية أن يتجاوز متوسط ارتفاع درجات الحرارة العالمية مؤقتاً حاجز 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية خلال السنوات الخمس المقبلة. ومع تسارع الاستثمارات العالمية في الطاقة المتجددة والاقتصاد المستدام، تكثّف الحكومات خططها للتصدي للتغير المناخي، واضعةً التنفيذ العاجل على رأس الأولويات في الأعوام القليلة المقبلة.

في هذا السياق، تتبنى دول مجلس التعاون الخليجي استراتيجيات طموحة لمواجهة التحديات البيئية، لتصبح نموذجاً عالمياً يُحتذى به في تعزيز ممارسات الاقتصاد المستدام كوسيلة لتحقيق نمو اقتصادي مستدام. وتعكس الرؤى الوطنية، مثل رؤية المملكة العربية السعودية 2030، وأجندة الإمارات الخضراء 2030، ورؤية عُمان 2040، ورؤية قطر الوطنية 2030، التزاماً واضحاً بالتنمية الصناعية المستدامة، مع التركيز على كفاءة الطاقة، والحد من النفايات، وتعزيز استخدام الموارد المتجددة.

ويمثل هذا التحول تغييراً جذرياً في قطاع التصنيع ويعتبر ركيزةً أساسيةً في مساعي دول الخليج نحو خفض استهلاك الطاقة وتقليل النفايات، وتعزيز الاستهلاك المسؤول، والتخفيف من التأثيرات البيئية. ويبرهن التطور السريع في القطاع الصناعي الخليجي على مرونة المنطقة وقدرتها على التكيف مع التحديات البيئية، إلى جانب رؤيتها الاستراتيجية بعيدة المدى. وفي الوقت نفسه، يشهد تعزيز سلاسل القيمة المحلية زخماً متزايداً، حيث تسعى الحكومات إلى زيادة الإنتاج المحلي للمواد الخام، مما يعزز التكامل بين القطاعات، ويدعم جهود توطين الصناعات، ويدفع عجلة التنمية المستدامة.

ولما لدول الخليج من خبرة طويلة في إنتاج الطاقة، وإمكانات مالية ضخمة، لا تقتصر على مواكبة التوجهات العالمية نحو الاستدامة فقط، بل تتخذ خطوات سبّاقة لوضع معايير جديدة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، واضعةً نفسها في طليعة الدول التي تجمع بين الاستدامة البيئية والنمو الاقتصادي المستدام.

تحقيق الاقتصاد المستدام في دول مجلس التعاون الخليجي

تمضي دول مجلس التعاون الخليجي بخطى ثابتة نحو تحقيق هدف "صفر مكبات نفايات" وذالك من التحول من مكبات (مرادم) نفايات الي مراكز معالجة وتحويل النفايات، ضمن استراتيجياتها الطموحة للوصول إلى الحياد الكربوني. وتشكل مشاريع تحويل النفايات إلى طاقة، وتوسيع نطاق إعادة التدوير، وإعادة تصميم العمليات الصناعية وفقاً لمبادئ الاقتصاد المستدام، دعائم أساسية لهذا التحول، مما يسهم في تعزيز التنمية المستدامة في جميع أنحاء المنطقة.

يستمر البحث والتطوير في دفع عجلة الابتكار فيما يختص بتقنيات تحويل النفايات، حيث تضع دول الخليج كفاءة الموارد وتقليل الفاقد في صلب استراتيجياتها الاقتصادية. فقد أطلقت دولة الإمارات في عام 2021 سياسة الاقتصاد المستدام، التي تستهدف الاستفادة القصوى من الموارد وتقليل النفايات، وتحويل المواد المهملة إلى قيمة اقتصادية ملموسة. كما تتبنى المملكة العربية السعودية استراتيجية طموحة لإعادة تدوير 95% من نفاياتها، والذي من شأنه أن يضيف 31.99 مليار دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي، ويوفر 100 ألف فرصة عمل، ويضع المملكة في مصاف الريادة العالمية في الاستدامة بحلول 2040 عبر تقنيات إدارة النفايات المتقدمة. وتعمل دولة قطر على تحديث منظومة إدارة النفايات، إذ تخطط وزارة البلدية لإنشاء مكب نفايات هندسي في الخور وفق المعايير البيئية الدولية، إلى جانب مصنع حديث لإعادة التدوير لتعزيز كفاءة الموارد.

وعودةً إلى السعودية، حيث نجحت مصانع كلوركس في الدمام وجدة في تحقيق نسبة 100% من التخلص من النفايات دون مكبات. كما أطلقت شركة "إدامة للحلول العضوية"، الشركة الناشئة برعاية جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، أول منشأة لإعادة تدوير النفايات العضوية في المملكة، ضمن أبحاث الجامعة. وبدورها، بدأت عُمان خطواتها الأولى في مشروع تحويل النفايات إلى طاقة، الذي من المتوقع أن يسهم في تقليل انبعاثات الكربون من المكبات بمقدار 50 مليون طن خلال 35 عاماً.

لا يقتصر الاقتصاد المستدام على تقليل النفايات فقط، بل يسعى إلى تحويلها إلى موارد ذات قيمة. ومن الأمثلة البارزة على ذلك مشروع إعادة تدوير النفايات الإلكترونية في صلالة بسلطنة عُمان، الذي يعد الأكبر في السلطنة. ويعالج هذا المشروع مشكلة النفايات الإلكترونية المتزايدة، ويتيح فرصاً اقتصادية جديدة، ليعزز مكانة عمان الرائدة في الإدارة المستدامة للنفايات ورفع كفاءة الموارد.

التغلب على العقبات

يفتح التحول نحو الاستدامة آفاقاً جديدة، حيث يؤسس أسواقاً ناشئة ويعزز الطلب على المنتجات والخدمات الصديقة للبيئة. وتتمتع الشركات التي تضع الاستدامة في صميم استراتيجياتها بميزة تنافسية واضحة، إذ تجذب المستهلكين والمستثمرين الذين يبحثون عن حلول مسؤولة بيئياً وذات مخاطر أقل وربحية أكبر.

رغم التقدم الملحوظ في هذا المسعى، لا تزال هناك عقبات تعترض التنفيذ الكامل لأنظمة إدارة النفايات الفعالة، من أبرزها أن بعض السياسات والتشريعات ما تزال قيد التطوير، مما يعيق التطبيق المتكامل لممارسات الاقتصاد المستدام، وتظل التكاليف الأولية المرتفعة، خاصة بالنسبة للتقنيات المتقدمة عائقًا كبيرًا، حيث يتطلب استثمارات ضخمة في المراحل الأولى. وما تزال شبكات إعادة التدوير والتخلص المستدام من النفايات غير كافية لتوسيع نطاق تبني الحلول البيئية على مستوى واسع.

لا يقتصر نجاح الاقتصاد المستدام على الجوانب التقنية فقط، بل يتطلب تحولاً سلوكياً واسع النطاق. ورغم هذه العقبات، تفتح التحديات مجالاً واسعاً للابتكار والاستثمار وإصلاح السياسات. فمن خلال معالجة هذه القضايا، يمكن لدول الخليج أن تطور حلول فعالة من حيث التكلفة، وأن تعقد شراكات استراتيجية جديدة، لتيسير ممارسات إدارة نفايات بأسلوب أكثر كفاءة واستدامة.

تمتلك دول الخليج خبرة طويلة في إنتاج الطاقة، وهي ميزة يمكن توظيفها في تطوير مشاريع تحويل النفايات إلى طاقة. ويمثل هذا التحول خطوة حاسمة نحو تحقيق التنمية المستدامة، إذ تسهم المعرفة المتخصصة المكتسبة من قطاع النفط والغاز في توسيع نطاق الطاقة المتجددة عالمياً، وهي ميزة نادرة لا تمتلكها سوى الدول الغنية بالموارد الطبيعية.

مستقبل الاقتصاد المستدام

من المتوقع أن يكون للتحول نحو الاقتصاد المستدام وتقليل النفايات أثراً عميقاً في سوق العمل، حيث ستستثمر منطقة الشرق الأوسط قرابة تريليون دولار في الطاقة النظيفة خلال العقد المقبل، في خطوة تعيد رسم المشهد الاقتصادي للمنطقة. ومن المنتظر أن يسفر هذا التحول عن إتاحة 300 ألف وظيفة جديدة بحلول عام 2030، بالإضافة إلى ضخ 100 مليار دولار في اقتصاد المنطقة، مما يعكس التزام دول الخليج المتزايد بالنمو المستدام وتنويع مصادر الطاقة.

بينما تمضي منطقة الخليج قدماً في رحلتها من الاعتماد على النفط إلى الابتكار الأخضر، وتقدم هذه التجربة دروساً قيّمة للعديد من الاقتصادات التي تعتمد على الموارد الطبيعية. فهي تبرهن على أن الرؤية الواضحة، والالتزام الجاد، والاستثمارات الاستراتيجية، عوامل قادرة على تحويل إرث الوقود الأحفوري إلى نموذج عالمي لاقتصاد مستدام ومتنوع.

تشهد دول الخليج تحولات اقتصادية إيجابية، تفتح الباب أمام العديد من فرص الاستدامة، التي تحمل في طياتها مستقبلاً أكثر ازدهاراً، ليس للمنطقة فحسب، بل للعالم أجمع.

بقلم/ فادي الشهابي، رئيس حلول الاستدامة، كي بي إم جي الشرق الأوسط

موصى به

No stories found.
Khaleej Times - Arabic Edition
www.khaleejtimes.com