

ارتفع الذهب يوم الثلاثاء متجاوزاً المستوى التاريخي 4,000 دولار للأونصة، ليُرسّخ مكانته كأهم ملاذ آمن في ظل عاصفة من الاضطرابات الجيوسياسية، وضغوط التضخم، ومخاوف متزايدة بشأن آفاق الاقتصاد العالمي.
وقد دفعت موجة الصعود القياسية عقود الذهب الآجلة إلى مستوى 4,005.80 دولار للأونصة، وهو ما يمثل مكاسب بأكثر من 50% منذ بداية العام الجاري – في أقوى أداء سنوي يشهده المعدن النفيس منذ عقود.
جاء هذا الارتفاع بالتزامن مع تراجع مؤشر الدولار الأمريكي بنحو 10%، فيما لا تزال الأسواق المالية تتأثر بالتوترات التجارية المتجددة، وعدم وضوح السياسات في ظل الولاية الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وقد ساهمت زيادة الرسوم الجمركية وهجمات ترامب على استقلالية مجلس الاحتياطي الفيدرالي في تعزيز المخاوف بشأن الاستقرار النقدي، ودفع موجة من رؤوس الأموال نحو أصول تقليدية ذات قيمة، مثل الذهب.
وتفوقت موجة الصعود الحالية على عدة موجات مضاربة شهدها القرن الماضي. فقد ارتفع سعر الذهب الآن بما يقارب 130% منذ مستويات التصحيح في عام 2022، بعد فترة طويلة من التماسك أعقبت طفرة جائحة 2020.
ورغم الأداء القوي، حذّر المحلل في بنك أوف أمريكا (BofA) بول سيانا من أن السوق قد يقترب مما أسماه "مرحلة إنهاك الصعود". وكتب في مذكرة للعملاء: "الزخم الحالي استثنائي لكنه وصل إلى مرحلة النضج"، موضحاً أن المؤشرات الفنية تتوقع احتمال دخول المعدن في تصحيح متوسط المدى مشابه للمراحل التي شهدتها موجات الصعود السابقة.
وقارن سيانا الوضع الحالي بـ"الدورة الفائقة" في سبعينيات القرن الماضي، حين ارتفع الذهب بنسبة 1,725% قبل أن يتراجع بنحو 60%، وكذلك موجة الصعود بين 1999 و2011 التي شهدت ارتفاعاً بنسبة 640% قبل أن يهبط بنسبة 38% حتى عام 2015. وأضاف أنه إذا كرر الذهب سيناريو بداية الألفية، فقد يختبر مستوى 7,000 دولار للأونصة، لكنه حذر من أن الارتفاع المفرط على المدى القصير قد يدفع نحو توقف أو تراجع نحو مستويات بين 3,790 و3,525 دولار.
وتُظهر النماذج الفنية لبنك أوف أمريكا أن الذهب يتداول حالياً فوق متوسطه المتحرك لـ200 يوم بنسبة 21%، وهي منطقة غالباً ما ترتبط بالقمم القصيرة الأجل. كما يقف الذهب فوق متوسطه المتحرك لـ200 أسبوع بنسبة 70%، وهي مستويات لم تُسجل سوى ثلاث مرات في التاريخ الحديث، أعوام 2006 و2008 و2011، وجميعها سبقت عمليات تراجع حادة. وأشار سيانا إلى أن الذهب حقق مكاسب لسبعة أسابيع متتالية، وفي كل من الحالات الـ11 السابقة لمثل هذا الأداء، كانت أسعاره أقل بعد شهر واحد، مما يزيد من احتمال الدخول في مرحلة تهدئة.
ورغم هذه التحذيرات الفنية، لا تزال العوامل الأساسية المؤيدة للذهب قوية. فقد واصلت البنوك المركزية، وعلى رأسها الصين والهند وتركيا، شراء السبائك بمعدلات قياسية، إذ اشترت مجتمعة أكثر من 1,000 طن خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2025، بحسب مجلس الذهب العالمي. وقد وفّر هذا الطلب المستمر أرضية قوية للأسعار، خاصة مع سعي المستثمرين للتحوط من ارتفاع مستويات الدين السيادي وتراجع الثقة العالمية في العملات الورقية.
كما يعكس اختراق الذهب الأخير حالة القلق في الأسواق بشأن الاتساع المتزايد للانقسامات الجيوسياسية – من تصاعد التوتر في الشرق الأوسط وأوكرانيا، إلى تجدد التقلبات في أسواق النفط وانخفاض اليوان الصيني الحاد. ويشير المحللون إلى أن انخفاض الدولار بنسبة 10% غالباً ما يعزز أسعار الذهب بنسبة 7% إلى 10%، مما يزيد من إقبال المستثمرين خارج الولايات المتحدة.
كما أن توقعات مزيد من التخفيضات في أسعار الفائدة الفيدرالية، بعد خفض بمقدار 25 نقطة أساس في سبتمبر، أعادت تنشيط تدفقات السيولة نحو السلع الأساسية، مع تقدير المستثمرين لاستمرار انخفاض العوائد الحقيقية حتى عام 2026، وهو ما دعم تاريخياً ارتفاع تقييمات الذهب.
وفي وقت يستعد فيه المتعاملون لاحتمال تصحيحات قصيرة الأجل، يبقى السرد طويل الأجل إيجابياً بشكل واضح. فمع تجاوز الدين العالمي 320 تريليون دولار، وضغوط العوائد الحقيقية، وتزايد الانقسام الجيوسياسي، يرى المحللون أن دور الذهب كأصل احتياطي استراتيجي يزداد أهمية. وكما لخّص سيانا: "قد تتوقف هذه الموجة مؤقتاً، لكن القوى الهيكلية التي تدفع الذهب لا تزال قائمة بقوة. حتى لو هدأت الأسعار مؤقتاً، فإن المسار الطويل الأمد للمعدن النفيس ما زال يشير إلى الصعود".