التمويل المستدام: محرك التحول الأخضر في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

من المتوقع أن تتجاوز إصدارات السندات الخضراء والاجتماعية والمرتبطة بالاستدامة تريليون دولار بحلول عام 2025
التمويل المستدام: محرك التحول الأخضر في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
تاريخ النشر

بحلول عام 2030، من المتوقع أن ينخفض نصيب الفرد من المياه المتجددة المتاحة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى أقل من 500 متر مكعب سنوياً، وهو الحد الأدنى لندرة المياه المطلقة. في الواقع، قد يؤدي نقص المياه المرتبط بالمناخ إلى خسائر في الناتج المحلي الإجمالي تصل إلى 14% بحلول عام 2050.

رغم أن المنطقة قطعت شوطاً كبيراً في ترسيخ الاستدامة ضمن أطر الشركات وهياكلها القيادية، إلا أن تمويل عملية التحوّل لا يزال عائقاً. ويكمن التصدي لهذا التحدي في إحداث تغييرات جذرية في كيفية دعم اقتصاداتنا وتمويل مستقبلنا. والسؤال المحوري هو: كيف نحشد رأس المال لدعم تحوّل مستدام؟

لماذا يُعد التمويل المستدام مهماً لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

يُعيد التمويل المستدام تشكيل الأسواق، حيث من المتوقع أن تتجاوز قيمة السندات الخضراء والاجتماعية والمرتبطة بالاستدامة تريليون دولار بحلول عام 2025. وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يُمثل هذا التحوّل تحدياً وفرصة في آنٍ واحد. إذ تُوازن المنطقة بين الانتقال من الاعتماد على النفط وبناء صناعات جديدة مرنة. وعقب الالتزامات التاريخية التي قُطعت في مؤتمر الأطراف (كوب 28)، أصبحت 70% من انبعاثات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الآن مغطاة بتعهدات تحقيق صافي صفري - بزيادة عن 60% قبل عامين. ومن المتوقع أن تُسهم الاستثمارات الخضراء بما يصل إلى تريليوني دولار أمريكي في الناتج المحلي الإجمالي الإقليمي بحلول عام 2030، وذلك بشكل رئيسي من خلال قطاعات مثل الطاقة المتجددة والبنية التحتية المستدامة. فعلى سبيل المثال، خصّصت الإمارات العربية المتحدة وحدها 270 مليار دولار أمريكي لتحقيق أهدافها البيئية بحلول عام 2030.

الفوائد الاقتصادية للتحول الأخضر

يجادل البعض بأن المشاريع الخضراء مكلفة للغاية، إلا أن استثمارات الطاقة النظيفة العالمية بلغت 2.1 تريليون دولار في عام 2024، بزيادة قدرها 11% عن عام 2023. تُسهم هذه الاستثمارات في خلق فرص العمل وتعزيز النمو الاقتصادي. ومن المتوقع أن يُوظّف مشروع نيوم في المملكة العربية السعودية أكثر من 200 ألف شخص بحلول عام 2025، ممّا يُظهر كيف يُمكن لمبادرات الاستدامة أن تُشكّل حافزاً اقتصادياً أيضاً.

بدلاً من إعاقة النمو الاقتصادي، يجذب التحوّل نحو مصادر الطاقة المتجددة المستثمرين ويُسهم في تنويع الاقتصادات. ويُعدّ الشرق الأوسط الآن أسرع أسواق الطاقة المتجددة نمواً بعد الصين. وتستثمر الإمارات العربية المتحدة 163 مليار دولار في مصادر الطاقة المتجددة، مُستهدفةً أن يكون 44% من مزيج الطاقة لديها من مصادر نظيفة بحلول عام 2050. ولا يُعزز هذا التحول المرونة الاقتصادية فحسب، بل يُعزز أيضاً ثقة المستثمرين.

المشهد الحالي للتمويل المستدام في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: التقدّم والمبادرات

شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تقدماً مُشجعاً، حيث تُبرز مبادرات رئيسية إمكاناتها. على سبيل المثال، جمع برنامج السندات الخضراء لـ"مصدر" مليار دولار أمريكي من خلال إصداره الثاني للسندات الخضراء، مُمولاً مشاريع طاقة متجددة يُتوقع أن تُخفف 5.4 مليون طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون سنوياً. ومثّل إصدار مصر للسندات الخضراء بقيمة 750 مليون دولار أمريكي في عام 2020 إنجازاً بارزاً، مُرسياً بذلك معياراً للدول الأخرى، بينما جمع صندوق الاستثمارات العامة السعودي 3 مليارات دولار أمريكي في عام 2022 لتمويل مشاريع الطاقة النظيفة والتنمية الحضرية المستدامة.

تُحدث مساهمات القطاع الخاص تحولاتٍ جذرية. ويعكس انخراط "بنك المشرق" في التمويل المرتبط بالاستدامة قدرة البنوك على إحداث تغييرٍ هادف. على سبيل المثال، يدعم قرض "جيمس للتعليم" المرتبط بالاستدامة بقيمة 3.25 مليار دولار أمريكي تبني الطاقة النظيفة وتوسيع نطاق المنح الدراسية لتوفير تعليمٍ منصف. وبالمثل، يُدمج تمويل "بنك المشرق" لمجموعة "شلهوب" أهداف الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، حيث يربط بين خفض انبعاثات الكربون، وتنوع القيادة، وممارسات سلسلة التوريد المستدامة. ومن خلال وضع أهداف بيئية واجتماعية وحوكمة طموحة وقابلة للتحقيق، تُمكّن بنوكٌ مثل "المشرق" الشركات من دمج الاستدامة في عملياتها الأساسية مع تعزيز المساءلة.

سد التحديات من خلال السياسة والابتكار

على الرغم من هذه التطورات، لا تزال التحديات قائمة. فضعف الوعي البيئي والاجتماعي والحوكمة وغياب أطر بيانات متينة يعيقان العديد من الشركات من الاستفادة بفعالية من التمويل المستدام. يجب على الحكومات والمؤسسات المالية سد هذه الفجوات من خلال الحوافز والتعاون في مجال الدعم الاستشاري. تُجسّد رؤية عُمان 2040 كيفية دمج الاستدامة في استراتيجيات التنويع الاقتصادي، حيث تُموّل البنوك مشاريع مثل المدينة الذكية، مُصمّمة خصيصاً لتلبية الأولويات الإقليمية.

تبرز التكنولوجيا المالية أيضاً كعامل تمكين رئيسي، إذ تُسهّل تداول أرصدة الكربون وتُقدّم حلولاً رائدة للرهن العقاري الأخضر. ومع تطور التمويل المستدام، سيُتيح التعاون بين البنوك وشركات التكنولوجيا المالية فرصاً جديدة للشركات والمستهلكين على حد سواء.

الطريق إلى الأمام: إطلاق العنان لإمكانات التمويل المستدام في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

يتطلب إطلاق كامل إمكانات التمويل المستدام في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نهجاً شاملاً يركز على مواءمة السياسات، وبناء القدرات، وتعزيز التعاون الإقليمي. يجب على الحكومات مواءمة سياساتها الإقليمية مع الأطر العالمية لجذب الاستثمار الأجنبي في المشاريع المستدامة. على سبيل المثال، يمكن لمبادرات مثل استراتيجية الإمارات العربية المتحدة للانبعاثات الصفرية بحلول عام 2050 أن تُشكل نموذجاً يحتذى به للدول الأخرى، حيث تُقدم خارطة طريق واضحة للتنمية المُراعية للمناخ.

تلعب البنوك دوراً أساسياً في رفع مستوى الوعي البيئي والاجتماعي والحوكمة وتمكين الشركات من دمج الاستدامة في عملياتها. تُسلّط استشارات "بنك المشرق" بشأن القروض المرتبطة بالاستدامة، مثل وضع مؤشرات الأداء الرئيسية ومراقبتها، الضوء على كيفية مساهمة البنوك في توجيه الشركات نحو تحقيق معايير بيئية واجتماعية وحوكمة أعلى، ودفع عجلة تغييرات فعّالة.

التعاون هو الأساس. المشاريع المشتركة والشراكات العابرة للحدود ستعزز الأثر، ممّا يُمكّن الدول من تجميع مواردها لمشاريع خضراء واسعة النطاق. لم يعد التمويل المستدام خياراً، بل ضرورةً لتعزيز المرونة الاقتصادية.

الكاتب هو رئيس مجموعة الخدمات المصرفية للشركات والاستثمار في "بنك المشرق".

موصى به

No stories found.
Khaleej Times - Arabic Edition
www.khaleejtimes.com